الفكر
الإسلامي
تفنيد
ما يصنعه المبتدعة من الاحتفال بعيد ميلاد النبي ﷺ بالأدلة الأربعة
(2/2)
بقلم
: الشيخ الجليل المربي الكبير العلامة أشرف علي التهانوي
المعروف
بـ Kحكيم الأمةJ المتوفى 1362هـ /
1943م
تعريب
: أبو أسامة نور
ليراجع
للتواصل عدد 6-7/29 جمادى الثانية – رجب 1426هـ ، ص : 13-15
وهناك حديث
رابع يمنع هذا الاحتفال
و
وَرَدَ في حديث رابع ، أن جواري كن يلعبن يوم العيد بحضور النبي ﷺ
، وقدم عمر رضي الله عنه فَزَجَرَهُنَّ ، فقال النبي ﷺ
: «إنّ
لكل قوم عيدًا وهذا عيدنا»
. وكأنه ﷺ أراد أن يمنع عمر
رضي الله عنه عن نهيهن عن اللعب في يوم العيد . والعلةُ التي وَرَدَتْ في الحديث
للسماح لهن باللعب هي كونُ اليومِ يومَ عيد . مما يؤكّد أنه خاصّ بالعيد، فلو
سُمِحَ لكل أحد أن يحتفل بما يشاؤه من عيد ، لجاز هذا اللعب كل يوم ، وبطل تخصيصه
بالعيد، الذي وَرَدَ في الحديث .
تفنيده
بالإجماع :
والإجماع
– كما تقرَّر في الأصول – اتفاقُ الأمة على ترك شيء . وقد استدلّ الفقهاء بهذا –
الإجماع – في مواضع كثيرة ؛ لأن الصحابة – رضي الله عنهم – أيضًا كانوا يستدلّون
بما إذا ترك النبي أمرًا بشكل دائم . فمثلاً : رأوا النبي ﷺ
صلّى العيد ولكنه ﷺ لم يأمر فيه
بالأذان والإقامة فقالوا بأداء العيد دونما الأذان والإقامة . فكذلك إذا تركت
الأمةُ أمرًا بالإجماع ، وَجَبَ تركه ، ولذلك قال الفقهاء بأداء العيد دونما أذان
وإقامة . ولو لم تكن هذه القاعدة مُسَلَّمًا بها ، لجاز أن يُزاد إلى صلاتي
العيدين الأذانُ والإقامةُ منذ اليوم ؛ ولكنها مسلم بها فينبغي أن يُعْمَلَ بها في
مواضع أخرى .
شبهة
وتفنيدها
وقد
يقول قائل : إن الأمة كلَّها لم تتركِ الاحتفال بعيد الميلاد ؛ لأننا نحن – الذين يحتفلون
به – أيضًا من الأمة ، ونحن نحتفل به ، فلم يبق هناك إجماعٌ على تركه .
وأقول
مُفَنِّدًا هذه الشبهة : إن الاختلاف المتأخر، لايبطل الإجماعَ المتقدم ، أي أن
الأمر الذي انعقد عليه إجماع الأمة سابقًا ، لايرفعه الاختلاف المسبوق . فكانت
الأمةُ مُجْمِعَةً على ترك الاحتفال بعيد الميلاد مالم تكونوا قد أقدمتم على
اختراعه ، فإجماعُها لن يرتفع بمخالفتكم إيّاه .
وهذه
القاعدة لها جزئيّ آخرُ يؤيّدها ، وهو أنّ العلماء الأحناف لم يحيزوا تكرارَ صلاة
الجنازة مستدلِّين بأن تكرارها لم يثبت عن الصحابة والتابعين . على كل فالقاعدةُ
المسلَّمُ بها أن إجماعَ الأمة على ترك شيء دليلٌ على عدم جوازه ؛ فثَبَتَ أن
الاحتفال بعيد الميلاد بدعةٌ واجبٌ تركُها .
القياس
أيضًا يبطل عيدَ الميلاد
أمّا
القياس ، فله قسمان : (الف) القياس المأثور عن المجتهد (ب) القياس الذي لم
يُؤْثـَرْ عن المجتهد . أما القاعدة التي تقول : إن قياس غير المجتهد لا يوثق به ،
فهي تتعلق بالحوادث التي وُحِدتْ في عصر المجتهدين . أما الأحوال المستجدة فيُعتبر
فيها قياسُ غير المجتهد أيضًا . فما استجدّ من قضايا التجارة والاكتشافات الحديثة
، إنما اسْتُنْبِطَتْ أحكامُه بالقياس .
على
أننا نحن لا نمارس القياسَ في هـذه القضية ؛ لأننا إنما كنا نحتاج إليه ، إذا لم
يرد التعرُّضُ لها من قبل السلف ، وقد وُجـِدَ لديهم التعرُّضُ لها . ومن المؤكد
أن قياسهم أقوى من قياسنا . وقد تعرَّضوا لها بشكل مُكَثَّف في «تبعيد
الشيطان»
و «الصراط
المستقيم»
وأثبتوا أنه لا يجوز اتخاذُ زمان أو مكان عيدًا . وبذلك تم تفنيدُ عيد الميلاد
بالقياس هو الآخر .
دلائل
المحدثين لعيد الميلاد وتفنيدها
ونأتي
الآن إلى بيان دلائل المبتدعين لعيد الميلاد، ومن ثم إلى تفنيدهم . وإنّما عبّرنا
عن ذلك بـ«الدلائل»
لأنه عسى أن يستدلّ بها أحدٌ في حين من الأحيان . أمّا أنا فلم أسمعها عنهم ؛
لأنهم لن يصلوا إلى دليل على باطلهم مهما أَمْضَوْا أعمارَهم، لذلك كانت نفسي
لاتطيب أن نمنحهم «دلائل»
بشرحنا إيّاها ؛ لكننا إنما عمدنا إلى بيانها حتى نسدَّ الطريقَ أمام من عسى أن
يحتجّ بها . فها نحن أولاء نثبتها مع الإجابة عنها :
الدليل
الأول وتنفيده
وهو
أيةٌ من القرآن الكريم ، وهي : «قُلْ
بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِه فَبِذٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوْا»
(يونس/58)
فقد يستدلّون بها ويقولون : إنّ الآية تشير إلى كون الفرحة مأمورًا بها ، وعيدُ
الميلاد تعبيرٌ عن «الفرحة»
فثبت جوازُه . والإجابةُ عن ذلك أن الآية إنما دلّت على كون مجرد الفرحة مأمورًا
به ، والموضوعُ هو الكيفية المعهودة الخاصّة التي أُحْدِثـَتْ لعيد الميلاد
والآيةُ لا تمسّها . ولو جاز إدخالُها في كُلِّيَّة «الفرح»
لجاز دخول البدع التي نهى عنها الفقهاءُ في كتبهم في كُلِّيَّةٍ مثلِ ذلك ، حتى
تجوز هي جميعًا ، على حين إنّ كتب الفقه – التي هي مسلّمة لدى الطرفين – تنهى عن
هذه البدع بأسلوب صريح . وأهلُ الزيغ ينخدعون أو يتجاهلون فيظنّون أن موضوع
قضيّتهم وقضية أهل الحق واحد ، فيعترضون على أهل الحق ، ومن ثم انخدعوا ههنا ؛
فالأمر الذي نقول بعدم جوازه ، هو هيئةٌ خاصةٌ للفرحة ، والفرحةُ الثابتة بالآية
هي فرحةٌ مطلقةٌ ، فيقولون : إننا ننهى عن الفرحة ، على حين إن الأمر ليس كذلك ،
ولو أَمْعَنُوا النَّظَرَ، لعلموا أننا أشدّ عملاً بالفرحة ؛ لأنهم لايفرحون
بميلاد النبي ﷺ إلاّ مرة واحدة في
السنة ، وتظلّ فرحتُهم به منقطعةً خلالها . أمّا نحن فنظلّ نفرح به دائمًا ، لأنّ
العلماء الربانيين يظلّون سكارى ببشاشة الإيمان وتذوّقها ، وكثيرٌ من أهل الحق
يتمتعون بهذه البضاعة الإيمانية . «وَذلِكَ
فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيْهِ مَنْ يَّشَاءُ»
وهذه هي الفرحة المأمور بها في الآية ؛ فالذين لا يواصلون الفرحةَ هم تاركون
العملَ بالآية، أما نحن فنواصل الفرحةَ ولا ندعها تنقطع؛ فنحن – إذًا – نجمع بين
العمل بالآية وبمقتضى دلائل النهي عن البدع . وأهلُ البدع لايتيسّر لهم أيٌّ من
الأمرين .
وخلاصةُ
القول : إن الفرحة المأموربها لها ثلاث درجات : الإفراط، والتفريط، والاعتدال.
فالتفريط أن نُحَدِّدَ وقتَ الفرحة ، كما يشفّ ذلك عن حديث الأشخاص الأفظاظ .
والإفراطُ أن نسارع إلى الفرحة ، ولكن نتجاوز فيها الحدودَ الشرعية كما هو دأب
المُجَدِّدين المتجاوزين الحدودَ التي رسمتها الشريعة . أما الاعتدالُ فهو
المداومة علىالفرح في إطار الشريعة . فنحن لسنا مُحَدِّدين ولامُجَدِّدين ، وإنما
نحن معتدلون . والحمد لله على ذلك .
الدليل
الثاني وتفنيده
قد
يجوز أن يستدلّ المبتدعون بالحديث الذي جاء فيه أن أبا لهب لما سمع بولادة النبي ﷺ
، فرح بها فرحًا دفعه إلى أن يعتق جاريةً له ، مما خَفَّفَ عنه العقابَ . فعُلِمَ
أن الفرحة بالولادة جائزة ، ومسببة للبركة . والإجابةُ عن ذلك معلومة ، وهي أننا
لاننكر الفرحة المطلقة ، ونحن عاملون بها كل وقت ، وإنما نحن بسبيل إنكار الهيئة
الخاصّة للفرحة.
الدليل
الثالث وتفنيده
قد
يجوز أن يستدلِّوا بالآية الكريمة : «وَإذْ
قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يـٰـعِيْسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيْعُ
رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ»
إلى
قوله تعالى :
«رَبَّنَا
أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيْدًا لأَوَّلِنَا
وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ»
(المائدة/
112-114)
فدلّت
الآية أن تاريخَ عطاء النعمة الإلهيّة يجوز اتخاذه عيدًا . وقد تقرر في الأصول أن
ما يرويه تعالى علينا من شرائع الأمم السابقة دونما إنكار لها، فهو حجّة لنا ،
وليس ههنا انكار ؛ فثبت اتخاذُ يوم تلقّي النعمة الإلهية عيدًا . وولادةُ النبي ﷺ
نعمةٌ عظمى ، فيجوز اتخاذُ تاريخها عيدًا .
والإجابةُ
عن ذلك : ليس من الضروري أن يوجد الإنكار من قبل الله في موضع ذكـر شريعة من
الشرائع السابقة . ألا ترى أن الله يقول : «وَإِذْقُلْنَا
لِلْمَلـٰـئِكَةِ اسْجُدُوْا لآدَمَ»
() وسجدةُ التحية وسجدةُ التعظيم منسوختان في شريعتنا . ولا يوجد الإنكار في الآية
في موضعها . وإنما النسخ ثبت بدلائل أخرى .
فالدلائلُ
التي سقناها من قبلُ للردّ على اتخاذ ميلاد النبي ﷺ
عيدًا من الآيات والأحاديث ، تكفي لتفنيد ما قد يمكن أن يستدلّ عليه المبتدعون
بهذه الآية المسرودة أعلاه .
وهذه
الإجابة إنما تكون ساريةَ المفعول إذا سلّمنا أن الآية تعنى ما فهمه المستدلّون .
ولكن الآية لا تعني أن عيسى – عليه السلام – كان يودّ أن يتخذ يوم نزول المائدة
عيدًا ؛ لأن الضمير في «تكون»
راجعة إلى «المائدة»
فإرادة «يوم
نزول المائدة»
لاتكون إلاّ مجازًا ، وقد تقرَّر في الأصول أنه لايُلْجَأَ إلى المعنى المجازي ما
صَحَّ المعنى الحقيقيّ ؛ فمعنى الفقرة : «تكون
المائدة مبعثَ سرورلنا»
والعيد معناه المسرة أيضًا . ومَنِ الذي ألزم المبتدعينَ ان يحملوا كل «عيد»
على عيد ميلاد النبي ﷺ؟! كما يصنع الشيعة
؛ حيث يحملون كل موضع يرد فيه «م
ت ع»
على جواز المتعة ، فيحملون الآية: «رَبَّنَا
اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ»
(الأنعام/128) على جواز المتعة . فكذلك هؤلاء يحملون كل كلمة تتضمّن «ع
ي د»
علىعيد ميلاد النبي ﷺ.
الدليلُ
الرابعُ وتفنيده
قد
يجوز أن يستدلّوا بالقصة التي ذكرها الحديث أنه عندما نزلت الآية: «اليَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيْتُ
لَكُمُ الإسْلاَمَ دِيْنًا»
(المائدة/3) قال يهودي لعمر – رضي الله عنه – لو نزلت علينا نحن اليهود هذه الآية
لاتخذنا يوم نزولها يوم عيد، فأجاب عمر رضي الله عنه: أن الآية نزلت يوم العيد، أي
يوم الجمعة ويوم عرفة. وقد جاء في جامع الترمذي أن ابن عباس رضي الله عنهما قال في
تفسير الآية أنها نزلت في يوم جمعة وعرفة .
ووجهُ
الاستدلال المحتمل لدى المبتدعين أن أيًّا من عمر وابن عباس – رضي الله عنهم – لم
يرفض اتخاذ يومِ نزوله يومَ عيد ؛ فعُلِمَ أن يوم تلقّي نعمة إلهية يجوز اتخاذُه
يومَ عيد .
ورغم
أن هذا الاستدلالَ لم يكن ليفطن له المبتدعون ليوم القيامة ؛ لكنني عرضتُه ههنا
تبرعًا مني ، حيث قد يمكن إذا فطنوا لذلك عن طريق محتمل ، أن يستدلّوا به ،
فيقولوا ما قلناه .
والإجابةُ
عن ذلك يمكن أن تُطْرَح على وجهين :
1-
الوجه الأول أن يقال – كما أسلفتُ – ليس من الضروري أن يكون الإنكار واردًا في
موضع السرد ؛ فقد نهى الفقها عن «التعريف»
أي الاجتماع تشبّها بيوم عرفة واجتماع الحجاج بعرفة. وقد رُوِيَ إنكار ابن عباس –
رضي الله عنهما – للتحصيب ، حيث قال : إنه ليس بشيء، على حين إن «التحصيب»
مأثور في بعض الروايات؛ ولكنه أنكر أن تُعَدّ العادة عبادةً ، فاعتبارُ غير
المأثور عبادة يكون منهيّا عنه لديه بشكل أقوى . أمّا عمر – رضي الله عنه –
فإنكاره للاجتماع على شجرة الحديبية معروف . فثبت إنكارُ كلا الصحابيين على مثل
هذه الأمور . على كل فليس من اللازم أن يرد الإنكار مصحوبًا لسرد قضية من القضايا
المنهي عنها .
2-
الوجه الثاني للإجابة أن الشخص الذي قال لعمر ذلك ، لم يكن مسلمًا وإنما كان
يهوديًّا، فقال له عمر : إننا نتمتع بالعيد من ذي قبل ، وإجابةُ عمر أيضًا تدلّ
على أنه لم يرضَ باتخاذ يوم نزول الآية عيدًا . وكأن عمر – رضي الله عنه – قال له:
إن «التعييد»
لايجوز في شريعتنا ، فلا يجوز لنا أن نتّخذ هذه المناسبات عيدًا من عندنا ؛ غير أن
الله تعالى جعل مسبقًا يومَ نزوله عيدًا .
الدليل
الخامس وتفنيده
قد
يجوز أن يستدلّوا بالحديث الذي وَرَدَ فيه أنه ﷺ
صام يوم الاثنين . فسأله أحد عن علّة ذلك فقال: «ذلك
اليوم الذي وُلِدْتُ فيه»
فعُلِمَ أن يوم ولادته يوم العبادة والقربة ، والفرحة بولاته قربة، فهي جائزة .
ولها
إجابتان أيضًا :
1-
أننا لا نسلم أن علة صيامه يوم الاثنين كانت كونه يوم ولادته ؛ لأن الحديث الآخر
وَرَدَ فيه علةُ صيامه بأنه ويوم الخميس تُعْرَض فيهما الأعمالُ على الله تعالى ،
وأنه ﷺ
أحبّ أن تعرض أعمالُه وهو صائم : فعُلِمَ أن علة صيامه كانت عرضَ الأعمال . فذكرُه
ولادتَه إنما يكون عن طريق الحكمة ، ومدارُ الحكم هو العلة وليس الحكمة : والقياسُ
بالقربات هو اعتبارُ الحكمة «عِلّة»
، والحكمةُ لا يدور معها الحكم .
2-
والثانية : سلّمنا أن علة صيامه ﷺ
كانت كون يوم الاثنين يوم ولادته ؛ ولكنا نقول : إن العلة على قسمين : (الف) علّة
تخص موردَها ولايجوز تعديتُها موردَه . (ب) علة لا تخص موردَها ويجوز تعديتُها
موردَه . ولو كانت هذه العلة متعديةً لكان إطعام الطعام وتلاوة القرآن وغيرهما
مقبولاً لدى الله ، ولكان واردًا صيامُ يوم 12/ربيع الأول مهما صادف يومًا من
الأيام ، مثل صيام يوم الاثنين، ولكنه لم يرد .
على
أن النعم الإلهية كثيرة لاتُعَدُّ . مثلاً : الهجرة، وفتح مكة ، والمعراج وغيره ،
فلماذا لم يصم النبي ﷺ أيّام نزول أيّ
منها ؛ فعُلِمَ أن العلة ليست عامّة ، وإنما هي خاصّة بالمورد، وأن مدار صيامه ﷺ
كان الوحي الإلهي ، وذَكَرَ ولادته كحكمة ، وإلاّ لزم تعييدُ وتصويم أيام نزول
النعم الإلهية الأخرى .
ولو
قيل: إن تخصيص يوم الولادة بالصيام ، يرجع إلى أن ولادته هو السبب في جميع النعم
الأخرى ، فهناك فرق بين نعمة الولادة ونعمة الهجرة وغيرها من النعم .
لقلنا
إن كون «آمنة»
حاملاً به ﷺ هو أصل ولادته ﷺ،
فينبغي أن يعتبر مصدرًا لنعمة الولادة وأن يصام يومُه ويُعَيَّد . ومن الظلم الذي
يَرْتكبونه في هذا الصدد أنهم لا يُعيِّدون «يوم
الاثنين»
وإنما يعيّدون يوم 12/ربيع الأول، وقد صام النبي يوم الاثنين ، ولم يرد عنه أنه
صام يوم 12/ربيع الأول . وكان مقتضى الدليل الذي يستندون إليه أن يتخذوا كل يــوم
من أيام الإثنين يـوم عيد ويصوموه ويعبدوا فيه ؛ فغرضُ المبتدعين لم يُؤَيَّدْ
بهذا الدليل أيضًا . وكان إلى ههنا شرح ما يمكن أن يلجأوا إليه من الدلائل النقلية
.
الدلائل
العقلية وتفنيدها
ونأتي
الآن إلى الدلائل العقلية ؛ لأن فيهم كثيرين من العقلانيين ، فيعرضون مصالح عقلية
لعيد الميلاد النبويّ ، تنفع على زعمهم الأمةَ والوطنَ . فينبغي أن نسوّي القضية
من هذا الجانب أيضًا .
ولا
يغيبن – قبل كل شيء – أن نعلم أن جميع العبادات التي شرعها النبي ﷺ
، جعل لها أسبابًا . ومن هذا الوجه كان المأمور به من الأحكام والشرائع على أقسام
. الأول أن يكون السبب مُكَرَّرًا ، أي يوجد السبب مرة بعد أخرى ، فإذا تكرّر
السبب تكرّر المُسَبَّبُ لامَحَالَة . فالصلاة سببُها الميعاد ، فكلما وُجـِدَ
الميعاد وجبت الصلاة . وكذلك الصيام سببه شهود شهر رمضان ؛ فكلما تمّ شهود الشهر
وجب الصيام . وكان من هذا الباب ، وجود العيد بوجود الفطر ، ووجود الأضحية بوجود
يوم الأضحية . الثاني : أن يكون السبب واحدًا فيكون المسبب واحدًا ، كالحج سببه
بيت الله فكان الحج واجبًا مرة في الحياة ؛ لأن البيت واحد . والقسمان مُدْرَكَانِ
بالعقل لأن العقل يقتضى تكرُّرَ المسبب بتكرّر السبب وتوحّد المسبب بتوحّد السبب .
والثالث : أن يتوحّد السبب ويتكرّر المسبب ، كالرمل في طواف الحج ؛ لأن سببه كان
إراءة القوة ، وهي ليست متحققة الآن ؛ لأنه كان قد حدث آنذاك أن المسلمين لما
جاؤوا حاجيّن إلى مكة المكرمة قال المشركون : إن حمّى يثرب أَضْنَت المسلمين وأنهكت قواهم ؛ فأمرهم النبي ﷺ
أن يرملوا في الطواف ، حتى يشاهد المشركون قوة المسلمين . وهذا السببُ لم يعد
موجودًا اليومَ ؛ ولكن المأمورَ به أي الرمل في الطواف باقٍ على حاله . وذلك ما
لايدركه العقل. والعملُ الذي لايدركه العقل يحتاج إلى النقل والوحي . واليوم الذي
وُلِدَ فيه النبي ﷺ قد مضى ولايتكرّر ؛
لأن يوم 12/ ربيع الأول الذي يتكرّر كل عام ، إنما هو مثل يوم ولادته وليس عينَه .
وذلك ما لا يحتاج إلى إيضاح . فثبوتُ الحكم الذي ثـَبَتَ للشيء ، لمثله ، يحتاج
إلى دليل نقلي؛ لأنه غير مدْرَك بالعقل، فلا يُعْمَل فيه القياسُ الذي إنما يكون
ساريَ المفعول في الأمور المدركة بالعقل .
وقد
يقول قائل : إن النبي ﷺ
عَلَّل صيامَه يوم الاثنين بكونه يوم ولادته ، فيجوز أن يقال : إن يوم الاثنين
الذي صامه إنما كان مثلَ يوم الاثنين الذي وُلِدَ فيه ولم يكن عينَه ، فلماذا
أعطاه حكمَ الأصل.
والإجابةُ
: أن هذا الصيام الذي صامه هو بدوره مأثورٌ وكان مبنيًّا على الوحي ، فلا يقاس
عليه .
وهنا
أطرح لديهم دليلاً عقليًّا آخرَ قد يمكن أن يستدلّوا به إذا فطنوا له ، ثم نعقبه
بالإجابة عنه وتفنيده :
وهو
أننا نسابق بذلك أهلَ الكتاب الذين يحتفلون بعيد ميلاد المسيح عليه السلام ،
فنحتفل بعيد ميلاد نبينا محمد ﷺ
، حتى تظهر قوةُ الإسلام وشوكته . فنقول : إن ذلك يصحّ لحدّ ما إذا لم عندنا ما
نبدي به قوتَنا وشوكتنا . ولدينا أيامُ الجمعة و العيدين التي تكفينا لإظهار قوة
الإسلام وشوكته . ولئن حلا لنا أن نسابقهم ، فلديهم أعياد كثيرة ، فينبغي أن
نسابقهم فيها أيضًا . وكذلك ينبغي أن تسابقوا – أيها المبتدعة – الشيعةَ في
الاحتفال بيوم استشهاد سيدنا الحسين بن علي – رضي الله عنهما – حيث يجولون
بالأضرحة المصنوعة من القصب والخشب والورق ويمارسون الألعاب والنياحة وشقَّ الجيوب
ولطمَ الخدود وجرحَ الصدور والتمشّي على الحريق . وهناك جهال من السنة يصنعون ذلك
أيضًا إظهارًا لقوة الإسلام !. وإذا كانت المسابقة هي قوة الإسلام ، فلننحُ منحى
الهندوس الذين يحتفلون بـ«هولي»
و «ديوالي»
.
ونحكي
لكم قصةً لكي تعلموا أن استنادكم إلى هذه «العلة»
غيرُ صحيح : كان ﷺ في سفر، وكان
الكفار قــد صنعوا شجرةً وعلّقوا عليها أسلحة ، وكانوا قد سمَّوها «ذات
أنواط»
فقال بعضُ أصحابه : اِجْعَلْ لنا «ذات
أنواط»
أي اجعل لنا شجرة نعلق عليها الأسلحةَ والثيابَ . ولم يكن في ذلك – فيما يبدو –
حرجٌ لأن تعليق الأسلحة أو الثياب على شجرة أمر مباح ؛ لكنه كان في ذلك تَشَبُّهٌ
بهم ، فتغيّر وجهُ رسول الله ﷺ
. وقال سبحان الله تقولون مثلَ ما قال قوم موسى : «اِجْعَلْ
لنا إِلـٰـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةً»
(الأعراف/138) فإذا نهى النبي ﷺ
عن هذا التشبّه الذي يبدو هيّنًا ، فكيف إذا كان التشبّة شديدًا . وكانت المحاكاة
كاملةً .
فثبت
أن فرحتنا جائزة ، ولكنه لايجوز تحديدُها بيوم أو مكان أو بكيفية خاصّة ، كما
لايجوز تجديدٌ فيها من عندنا . وثبت بطلانُ هذه البدعة المسماة بيوم عيد ميلاد
النبي ﷺ
بكل من الدلائل العقلية والنقلية .
* * *
مجلة
الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذوالقعدة 1426هـ = ديسمبر
2005م ، العـدد : 11 ، السنـة : 29.